القراءة النّقديّة للكتاب (بدر العبري)
مقدمة (أهميّة الكتاب):
الكتاب في ذاته من الكتب الفريدة، ومن الأبحاث النّادرة الّتي جمعت بين الفقه العمليّ وبين علم الاجتماع كعلم ومباحث تأصيليّة، ولهذا أرى الكتاب مادّة خصبة للدّارسين في هذا الباب، والرّاغبين في البحث، ومن أراد البحث في هذا لا يمكن الاستغناء عن هذا الكتاب، وقراءته تدل على جهد بذل فيه المؤلفان وسعهما لتقديم رؤية اجتماعيّة للفقه والتّراث العمانيّ.
ولا يمكن بحال في هذه القراءة إعادة ما جاء في الكتاب، وممكن الرّجوع إلى خاتمة الكتاب الطّويلة؛ لأنّها اختصرت جميع ما جاء في الكتاب، والّذي يهمنا هنا أنّ الكتاب يركز على خمسة جوانب:
أهمية التّجديد ونبذ التّقليد.
الحديث حول التّسامح.
الحديث حول الكياسة المجتمعيّة.
الحديث حول المرأة ومكانتها وتملكها وحقها المجتمعيّ.
الحديث حول قيمة التّعاون.
وسأركز في هذه الورقة على جانبين:
الأول: خطوط خارجيّة حول الكتاب.
الثّاني: جوانب نقديّة داخل الكتاب.
الجانب الأول: خطوط خارجيّة حول الكتاب.
وهنا أشير إلى ثلاث نقاط مهمة في نظري:
النّقطة الأولى: درج العديد من الباحثين والكتاب في القراءات العامة للتّراث الفقهيّ أو الدّينيّ عموما على منهجين:
المنهج الأول: المنهج النقديّ الّذي يلتزم التّعامل مع المعرفة الفقهيّة بجانبيها الإيجابيّ والسّلبيّ، وعدم التّحرج من نقد الذّات أو التّراث.
المنهج الثّاني: المنهج الوصفيّ المركز في غالبه على الإيجابيات من الفقه أو التّراث، وربطه بالمفاهيم المعاصرة، وذلك لأنّ أهم مدرستين حول التّراث:
مدرسة تقدس الماضي والتراث، وتنظر إليه أشبه بالملائكيّة والوحي المقدس.
مدرس تلغي التّراث، وترى التّراث رجوعا بالعقل إلى الماضي والعيش فيه، وأنّه ضدّ الحضارة والمدنيّة والتّقدم.
لهذا درج أصحاب هذا المنهج إلى تقديم إيجابيات التّراث، وتقديمها كرؤية ممكن الاستفادة منها.
ولهذا أرى أنّ كتاب: [أثر الفقه العمانيّ في السّلوك المجتمعيّ] نصنفه من أصحاب المنهج الثّانيّ؛ لأنّه يخلو من الرّؤية النّقديّة، فهو يقدّم رؤية وصفيّة للجانب الإيجابيّ من منظور الكاتبين، وإلا فالتّراث العمانيّ كأي تراث إنسانيّ يشمل الجانبين: الجانب المضيء، والجانب المظلم، وحتى في الجوانب الّتي ذكرها الكاتبان، فهناك جوانب إقصائيّة وجوانب سلبيّة في العلاقات المجتمعيّة، وهي إن كانت أقلّ من الجوانب الإيجابيّة إلا أنّها ليست قليلة، وأضرب سريعا مثالين في الجانب المجتمعيّ:
المثال الأول: تقسيم النّاس إلى ثلاثة، قسم المسلمين، وقسم أهل الكتاب، وقسم المشركين، فقسم المسلمين واضح، أمّا أهل الكتاب فلهم الإسلام أو الجزية، وأمّا المشركون فلهم الإسلام أو السّيف، فهنا لن أتطرق إلى قضية الجزية والّتي في نظري لا علاقة لها بالأفراد والسّلم المجتمعيّ، وهي مرتبطة بين الدّول والممالك وقت الاعتداء لإضعاف العدو، وذكرت في سورة براءة في سياق الاعتداء، ولأنّ الرّوم كتابيون نصارى، أمّا أفراد المجتمع فلا علاقة لهم والجزية، وهي ضريبة غالبا يأخذها القوي مقابل خدمة الضّعيف، كما ندفعها نحن اليوم للدّول الأقوى مقابل توفير الحماية لنا.
الّذي يهمني قضيّة غير الكتابيين وربطهم بالسّيف، لظواهر بعض الآيات المتشابهة، وعدم ردها إلى الآيات المحكمة؛ لأنّ الأصل آيات السّلم، وآيات القتل عارضة، ولهذا اضطر الفقهاء العمانيون إلى قياس الهندوس والمجوس بأهل الكتاب، فهذه من الجوانب الّتي تؤثر سلبا في الجانب المجتمعيّ، خاصة في عالم اليوم، وأصبحنا نعيش في قرية واحدة.
المثال الثّاني: قضيّة الولاية والبراءة، ومع محاولة الكاتبين في وضع الولاية والبراءة كاستخدام إيجابي في المجتمع، إلا أنّها أيضا أثرت سلبا نتيجة التّوسع في جوانبها، وجعل القضايا السّياسيّة قضايا دينيّة، وترتيب أحكام معقدة فيها، وجعلها أحدّ من السّيف، أثرت سلبا في السّلم المجتمعيّ، كما حدث مثلا في قضيّة الصّلت بن مالك في القرن الثّالث الهجريّ، وما ترتب من آثار سلبيّة نتيجة عزله.
عموما نعذر الكاتبين لأسباب أهمها لم نتعود على نقد الذّات، ونقد الماضي والتّراث ننظر إليه كأنه قدح في الإسلام أو في الشّخصيّة العمانيّة، هذا من جهة ومن جهة أخرى عدم وجود الدّراسات التّفكيكيّة النّاقدة للتّراث والتّأريخ العمانيّ، حتى على سبيل الدّراسات الأكاديميّة، وهي أقرب إلى الدّراسات الوصفيّة.
وهذا ما نعاني منه ليس في القراءة البحثيّة بل حتى في تحقيق التّراث، الّذي يعتمد على المنهج الكلاسيكيّ في إخراج التّراث، بما يضمّ من إيجابيات وسلبيات، والّذي نحن بحاجة أن يضاف إلى تحقيقه نقد التّراث ذاته، بما يوافق والقيم المعاصرة.
النّقطة الثّانيّة: لابدّ من التّفريق بين الإسلام وبين التّفسيرات الفقهيّة، ولهذا أجد أكبر خطأين في هذا:
أولا: اعتبار الإسلام ينطلق من بعثة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، وهذا خطأ كبير يعارض حتى القرآن، سواء كان بمفهومه اللّغوي أو بمفهومه الجنسيّ، فالقرآن في العهد المكي يشير إلى وجود الحالة الطّقوسيّة تماما كالصّلاة والصّوم والزّكاة والحج والوفاء بالنّذور والعلاقة الأسريّة والمجتمعيّة، وجاء القرآن كجانب إصلاحي تقويميّ، وليس كما يصور كأن النّاس في حالة بهيميّة لا طقوس ولا نظام أسريّ ولا مجتمعّي.
ثانيا: الفقه ليس اختراعا عربيا؛ بل هو مما شارك فيه المجتمع الإنسانيّ ككل، والجزيرة العربيّة وقت بعثة النّبي عليه الصّلاة والسّلام كانت تعيش وفق ثقافات متداخلة، كالثّقافة اليهوديّة والصابئة والحنفيّة والمسيحيّة بأقسامها كالقسم الرّومانيّ، بجانب الثّقافات العربيّة الأخرى.
ولما نشطت التّرجمة تأثرت الثّقافة الإسلاميّة بالمنطق والفلسفة الإغريقيّة، ولهذا بدأت بعض العلوم تتكون في جانب منطقيّ تصنيفيّ، كعلوم اللّغة والآلة وأصول الفقه، ومن هذه العلوم الّتي تأثرت بالقانون الإغريقيّ لاحقا علم القواعد الفقهيّة والضّوابط الفقهيّة وتفريعاتها والّتي كونت علم المقاصد لاحقا.
فعندما نتأمل كتاب جونستنيان في الفقه الرّومانيّ والّذي دوّن قبل بعثة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما يقارب سبعين سنة، حيث يتكلم عن القوانين الشّخصيّة، والقوانين الملكيّة، والمواريث والوصايا والهبات والالتزامات والأموال والدّعاوى والقضاء وغيرها، نجد التأثير الرّومانيّ على الفقه الإسلاميّ منذ فترة مبكرة، ولا يكون هذا التّشابه محل الصّدفة فقط.
ففي الكتاب مثلا نجد الكتاب أكثر من أربع وثلاثين ومائة قاعدة، تتشابه كثيرا مع القواعد الفقهيّة في التّراث الإسلاميّ كقاعدة التّابع تابع، واليمين على المدعي، والضّرر يزال، ولا عبرة بالدّلالة في مقابلة التّصريح، والمعلول يدور مع العلة وجودا وعدما، والعادة محكمة، واختيار أهون الشّرين، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا، والعبرة في العقود المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني، والأصل يتبعه الفرع، ولا ينسب لساكت قول، والأصل في الإنسان البراءة.
ما أريد أن أقوله هنا أنّ الدّراسات الإنسانيّة في الفكر الإسلاميّ لقراءتها لا يجوز أن تقرأ وكأنها بدأت من نقطة الصّفر، أو نزلت من السّماء هكذا؛ بل هي نتيجة توارث أفكار حضارات وأمم أخرى، تمازجت مع التّأصيل الدّينيّ، والتّنوير القرآني في العديد من المراجعات، مع بعض التّطبيقات النّبويّة، فكانت منظومة الفقه الإسلاميّ بقواعده وأصوله وأدلته وفروعه نتيجة اختلاط واستفادة من تراث ونتاج أمم أخرى أيضا، ولكي تكون الزّاوية سليمة لابدّ من قراءة تراث الأمم الأخرى لأنّه يؤثر جدا في فهم العقليّة الفقهيّة المسلمة ونتاجها الفقهيّ على مر التّأريخ زمنا ومكانا.
ولهذا لابد من التّفريق في العقل الجمعيّ بين الإسلام الّذي أراه لابد أن ينطلق من دليل قطعيّ أو عمليّ متفق عليه، وبين التّفسيرات الفقهيّة، فالثّانية نتيجة تجارب بشريّة، وهذا الفقه الّذي أمامنا هو تجربة بشريّة وليست الإسلام كنسبة إلى الله ودين قطعيّ، فهو أقرب إلى التّفسيرات والتجارب والتّأثر البشريّ.
النّقطة الثّالثة: الفقه سابقا كان مصطلحا عاما وواسعا، والفقيه يطلق على الخبير السّياسيّ والاقتصاديّ وعلى عالم العمارة والمواريث والتّركات والقانون وعلم الجنايات والحدود والأروش ونحوها، أمّا اليوم فنتيجة التخصص انحصر الفقه في جوانب معينة وعامّة أقرب إلى العبادات المحضة، لهذا عندما ننظر إلى التّراث الفقهيّ قد يتصور بعض الشّباب أنّ التراث الفقهيّ مجرد عبادات وبعض المجالات الأسريّة والقانونيّة والماليّة، بينما هو نظام مجتمعيّ شامل، وتجربة إنسانيّة شاملة، وهذا ما حاول الكاتبان إبرازه.
وهذا الخلل هو الّذي حدث في مؤسسات الافتاء اليوم، إذ غاب عنها الفقيه المتخصص في السّياسة والقانون والتّربيّة والاجتماع والاقتصاد والفلسفة، ممّا حدث من أخطاء إفتائيّة واضحة، وقصور في الإدراك الإفتائي، وتحويل العديد من القضايا المجتمعيّة والمدنيّة إلى قضايا دين لا قضايا رأي واسعة.
الجانب الثّاني: جوانب نقديّة داخل الكتاب.
أولا: عنوان الكتاب [أثر الفقه العماني في السّلوك المجتمعيّ] وفيه ملحوظتان:
الملحوظة الأولى: كلمة [العماني] مع أنّ عمان فيها المذاهب السّنيّة والشّيعة الإماميّة بجانب بعض الأديان الأخرى، وكان الأصل الإشارة، وقد يقول: لا توجد مصادر لهم، لكن القراءة المعاصرة تقدّم بعض الرّؤية، ثمّ هناك مثلا فتاوى العلامة حبيب بن يوسف الفارسيّ الصحاريّ المسقطيّ ت 1276هـ ممكن الرّجوع إليه، بجانب علماء ظفار، أو حتى علماء حضرموت لتأثر الفكر الظّفاريّ بهم.
فمن يقرأ الكتاب يدرك أنّه يقرأ للإباضيّة، وهم جزء من التّكوين العمانيّ، ولهذا أرى منهجيّا وأكاديميّا أن يكون العنوان: أثر الفقه الإباضيّ في عمان في السّلوك المجتمعيّ، وهذا لا خجل فيه، وهو أدق – في نظري – حسب مادة الكتاب، وليعلم القارئ أنّه يقرا للفكر الإباضيّ في عمان؛ لأنّ الفكر الإباضيّ أعمّ من عمان، ولكن إضافة: في عمان قيدا له.
الملحوظة الثّانية: (التّسامح نموذجا) كما أسلفنا أنّ الكتاب تحدث عن التّجديد ونبذ التّقليد، والكياسة المجتمعيّة، والمرأة، وقيمة التّعاون، وتحدث عن التّسامح في (32) صفحة فقط من (126) صفحة، فلماذا خصص التّسامح؟
ثانيا: في صفحة (8) قلتم: [ولقد بدأت هذه الصّلة بين العمانيّ واستجابته للعلم الفقهيّ منذ فترة صدر الإسلام]، وهنا وقعنا في ذات الخطأ الّذي أشرنا إليه سابقا، إذ لا يعقل أمّة عظيمة كعمان بتياراتها وأفكارها، لا فقه ولا قانون فيها، حتى يذهب جابر بن زيد ت 93هـ إلى البصرة، ثمّ يبدأ العمانيون تعلّم الفقه عن طريقه أو تلاميذه، ولكن ممكن: سادت الرّؤية الجديدة للفقه أو بعض معالمها التّصحيحية في الصدر الأول بعد البعثة المحمدية، ثمّ بدأت مدونات الفقه حسب المدرسة الإباضيّة في عمان.
ثالثا: في صفحتي (26- 27) قلتم: [وممّا ساهم في تعزيز هذه القيمة داخل المجتمع العمانيّ أنّ المجتمع بتاريخه الموغل في القدم لم يكن في أيّ من فتراته مجتمعا منغلقا على نفسه؛ بل العكس من ذلك تماما، فهو من النّاحية الانتروبولوجية التي تُعنى بالدراسة العلمية لماضي الإنسان وحاضره، وبحكم صلاته التجارية مع العديد من الحضارات، يعدّ من أكثر المجتمعات انفتاحا على الثّقافات الإنسانيّة ....].
والحقيقة في نظري أنّ الانفتاح في عمان كان انفتاحا تجاريّا وسياسيّا في بعض الأوقات، ولكن بحكم أنّ الدّولة الفقهيّة الّتي تميزت بالتّشدد نوعا ما، والّتي حكمت عمان في فترات، أو لتأثير الفقهاء في الدّولة كانت عمان في جوانب عديدة منغلقة، ولعلي أضرب مثلا الفلسفة والمنطق والتّرجمة والفنون بأنواعها، فنحن عندما نقارن بين الدّولة العباسيّة وانفتاحها العلمي والفلسفيّ والفنيّ لا نقارنها بعمان، ولا دولة الأندلس مع تشدد الأخير كفقه مالكيّ، إلا أنّ الحضارة والفلسفة والفنون نشطت فيها، وهذا خلافا لعمان، إلا إذا كان وجد ولم يدون أو أهمل!
رابعا: في حديثكم عن التّسامح انطلقتم من بعض الكتابات المعاصرة ككتب أركون والجابريّ على اعتبار أنّ مصطلح التّسامح معاصر، إلا أنّ كتب اللغة والتّراث أشارت إلى جوانب منها ككتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيديّ ت 170ه بمعنى المساهلة.
أمّا بمعنى احترام عقائد الآخرين أيّ كتعريف له حده ومنتهاه فإنّي أراه متأخرا، ولا يكاد يستخدم بهذا المعنى لغويّا أو فقهيّا اصطلاحيّا، ويرى بعض الباحثين أنّ استخدامه بمعنى حريّة المعتقد يعود إلى القرن السّابع عشر الميلادي في أوربا.
والقرآن استخدم معنى أدق وهو التّعارف الّذي يحمل بعدين التعرف على الآخر والاعتراف به، ومنه التعايش المجتمعي وعدم الإكراه وحفظ النفس وحماية دور العبادة من معابد وكنائس وغيرها، لهذا كنت أحبذ الالتفاتة قليلا إلى المفهوم القرآني وهو أسبق في نظري وأدق من لفظة التّسامح.
خامسا: أشرتم في الصّفحة (40) إلى أنّ الفتوحات الإسلاميّة لم تكن رسالتها توحيد الفكر والسّلوك المجتمعيّ لدى الشّعوب، ومع تحفظي لكلمة الفتوحات؛ لأنّ العديد منها استعماري الهدف منها امتداد الدّولة والمصالح الماليّة، إلا أنّ العديد ممّا سميت بالفتوحات صاحبها ليس إكراه ديني فحسب؛ بل حتى إكراه مذهبي، وفرض المذهب الواحد، وهذا له صوره المتعددة.
ثمّ لا أحبذ نسبة الفتوحات إلى الإسلام، وإنما إلى الدّول والشّعوب، فنقول الفتح العمانيّ والفتح العباسيّ والفتح العثمانيّ وهكذا، حتى لا ينسب الاخطاء العديدة في هذه الفتوحات – إن صح التّعبير – إلى الإسلام!!
سادسا: اقتبستم في صفحة (48) نصا من الضياء للعوتبي: من [دعا زوجته إلى مذهبه وتعريف الولاية لها فلم تقبل فليس له لعنها] وذكرتم هذا في سياق العنف اللّفظيّ، ولكن أتصور هنا اللّعن بمعنى البراءة، لا بالمعنى اللّفظيّ، حيث يطلق الإباضية على البراءة اللّعن، ولا يقصدون به الجانب اللّفظيّ حسب علمي، إلا إذا ذكر النّص في سياق اللّعن اللّفظي، فإذا ذكر في سياق الولاية أدركنا المراد به البراءة، كمصطلح الكفر المراد به كفر نعمة، ومصطلح التّكذيب المراد به الخطأ، كقول عائشة: كذب أبو الدرداء أي أخطأ.
سابعا: أشرتم صفحة (51) إلى نجاسة المشركين، وإنّ الفقه الإباضيّ تجاوز منذ فترة متقدمة أنّ النجاسة المقصودة في قوله تعالى: "إنّما المشركون نجس" هي نجاسة حسيّة واعتبرها نجاسة معنويّة معنويّة، إلا أنّكم أشرتم إلى أهل الذّمة والمجوس، والحقيقة لا إشكالية مع أهل الكتاب لأنّ القرآن نص على جواز طعامهم ونكاح نسائهم، ولا المجوس لأنّ سلمان الفارسي منذ فترة مبكرة جعلهم كأهل الكتاب، والحقيقة أنّ المجوسيّة ليست ديانة وثنيّة، والمكوسي هو الحبر كما عند اليهود، والرّاهب كما عند النّصارى، ومنهم الزّرادشتيّة وهي من الأديان التي تؤمن بوجود إله للخير وإله للشّر، فهي لا تنكر وجود إله، وتؤمن باليوم الآخر، وبالثّواب والعقاب، وفق فلسفتهم في ذلك، ويعتبرون أنّ للنّار والماء رمزية، فالنّار والماء رمز الحياة، كما عند بعض الفلاسفة الماء والتّراب والهواء والنّار.
وفي نظري لا توجد طائفة في الحقيقة في فارس تعبد النّار، والفرس غالبهم إمّا زرادشتيّ، والزّرادشتيّة لا يعبدون النّار كإله، كما أنّ الهندوس لا يعبدون البقر كإله، ومن الفرس مندائيون أو يزيديون، وهم موحدون أيضا.
ولكن الإشكالية في الوثنيين، وإن كانت الرؤية بالنجاسة المعنويّة تتعادل نسبا مع النّجاسة الحسيّة، إلا أنّ المراجعة القرآنية اليوم نحن فيه ملحة لكثرة الخلطة؛ ولأنّ الأصل في الإنسان الطّهارة، ولسياق الآيات الّذي يرى نجاسة الشرك والأصنام، وهي معنويّة وليست حسيّة.
ثامنا: في صفحة (65) أشرتم إلى القيم الإسلاميّة، وقبلها صفهة (64) أشرتم إلى قيمة العصبية والبداوة.
أمّا النّقطة الأولى في نظري القيمة مرتبطة بالجنس الإنسانيّ، فهي قيم يدركها العقل والفطرة الإنسانيّة ولا تتغير، ولهذا أحبذ عبارة (القيم الإنسانيّة) أمّا الإسلام واليهودية والنّصرانيّة وغيرها جاءت كجميع الرسالات بأدبيات واخلاقيات تعيد القيم وتصلحها، وإلا أصلا فهي قيم إنسانيّة كالعدل والصّدق والإحسان والحريّة وغيرها.
وأمّا قيمة العصبيّة والبداوة فلا أراهما قيمة أصلا، وهما من الأخلاقيات ومن مفرزات المجتمعات البشريّة، والعصبيّة والبداوة محكومة بالقيم الإنسانيّة الكبرى كغيرها من المفرزات.
تاسعا: قلتم في ص (73): [أمّا البراءة فتعني في دلالتها الابتعاد والنّفور عن مرتكبي المعاصي المخالفين في سلوكهم أو معتقدهم أي الأخذ بمبدأ الإقصاء].
وهذه ذكرتموها في الكياسة المجتمعيّة، وفي نظري هذه من الأدبيات الّتي يجب أن تنقد عندنا، لأنّ الهجر ذكره الله تعالى في سورة براءة في آية: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
والآية في سياق التّخلف في تبوك، مع كثرة المتخلفين إلا أنّه هجر الثّلاثة لمكانتهم العسكرية والاجتماعيّة، فهو هجر أقرب إلى الهجر التّأديبيّ لبعض الرّموز.
أمّا التوسع باسم البراءة أو الأقصاء فهو خطير، فيقصى كلّ مخالف للجانب الدّينيّ أو الفقهيّ بمعنى البراءة، خاصة وأنّ المفهوم أصبح عامّا كما لا يخفى لاتساع دائرة الرّأي وتحويلها إلى قضايا دين.
عاشرا: هناك جوانب كثيرة سلبيّة في الجانب المجتمعيّ كالغيبة المذهبيّة وجوانب المرأة لولا ضيق المقام لأشرت إليها، وأكتفي بما أشرت فقط للتّمثيل في ضرورة النّقد كالوصف تماما.
عموما الكتاب رائع جدا، ونحن بحاجة إليه في حاضرنا لإظهار الصّورة الحسنة، وأتفق مع الكتاب بنسبة لا تقل عن 95%، إلا أنني كباحث أنطلق من ذكر الجوانب الحسنة والسّيئة ونقدها علميا، شكر الله الكاتبين، ووفقهما لكل خير في خدمة الإنسان والتّسامح والمحبة بين البشر.
تعليق على قراءة الأستاذ بدر العبري (أحمد النوفلي)
بداية أشكر الأستاذ بدر العبري على هذه القراءة والتي اعتبرت الكتاب من الأبحاث النادرة التي جمعت بين الفقه العملي وعلم الاجتماع كعلم ومباحث تأصيلية.
وبما أنه قسم قراءته إلى جانبين فأبدأ تعليقي على الجانب الأول.
أتفق مع الأستاذ بدر على أن الكتاب هو قراءة وصفية للفقه العماني للجانب الإيجابي، وصحيح أن الفقه العماني كأي فقه له جانبان: إيجابي وسلبي، ونحن حينما نذكر الجوانب الإيجابية فمن باب حاجة مجتمعاتنا إلى هذه الرؤية في هذا الزمن الذي ينبغي فيه الأخذ بما هو إيجابي من التراث خاصة لمن لا يستطيع إيجاد الجديد، كما أن ذكرنا للإيجابيات لا يعني أننا لم نشر إلى الآراء السلبية، بل أشرنا إليها في العديد من المواضع في الكتاب مع ذكر ما ذكره الفقهاء من خلاف في مثل هذه القضايا، ومثال ذلك ما ذكره الفقيه ابن بركة (ق4هـ) من الرأي المانع من مصافحة أهل الذمة أو زيارتهم إذا مرضوا وغير ذلك إلا أنه يرى خلاف هذا الرأي مستشهداً بالآية 8 من سورة الممتحنة.
وأما في المثال الأول وهو قياس الهندوس والمجوس بأهل الكتاب في الفقه العماني، فهو ما يضرهم إلى ذلك الواقع السياسي والاجتماعي آنذاك، بل تشير كتابات الرحالة البريطانيين إلى دهشتهم للواقع الذي يحياه أهل الذمة وكذلك البانيان والمجوس في عمان مقارنة بمعيشتهم في واقع باقي الدول المحيطة بهم، لدرجة أنه يسمح لعباد البقر أن يمتلكوا بقراً، وغير ذلك.
وأما أن يقارن الأستاذ بدر تاريخ الماضي بما أصبحنا نعيشه اليوم فهذه مقارنة غير مقبولة وذلك لأن لكل زمن معطياته الاجتماعية والسياسية والاجتهادية.
أتفق معه من حيث قضية الولاية والبراءة وتأثيرها السلبي نتيجة التوسع في جوانبها وشروطها وأنواعها، لكن تاريخياً كانت تلك الممارسات للولاية والبراءة في الجوانب السياسية، مع محاولة الاستشهاد لهذه الجوانب بآيات من القرآن، مع الرجوع إلى الآراء الفقهية لأننا عموماً أمة لا تفكر إلا بعقول فقهائها، وقد أوضح الباحث زكريا المحرمي موضوع الولاية والبراءة في كتابه "الصراع الأبدي"، ورأى أن الهداية القرآنية فيها نحو الجانب الاجتماعي والسياسي دون ارتباطها بالمعاني الوجدانية كالمحبة والكره.
وتناولنا لقضية الولاية والبراءة خصصناها بالجانب الاجتماعي لدى العمانيين، بحيث تكون محاولة للترابط الاجتماعي العماني، بالبعد عن المعاصي أو مخالفة المعتقد لأن المعصية تسبب تفككاً للمجتمعات فلهذا حاولوا ربط البراة بمن يرتكب المعصية ليتحلم المجتمع مع بعضه بعضاً، ولهذا بغض النظر عن نجاحها في بعض الأزمنة وفشلها في أزمنة أخرى، فهي محاولة لربط تلاحم اجتماعي وتعزيره، وذلك وفق معطيات أزمنتهم وفقههم لواقعهم.
كما أني أتفق معه في حاجتنا إلى نقد التراث وتفكيكه، لكن لا يعني ذلك أننا في كتاباتنا السابقة لم ننقد التراث، فأنا لي عدة كتب نقد فيها تراث المسلمين، بمختلف مدارسهم الإباضية والسنية والشيعة، وانظر على سبيل المثال: "كتاب إنكار المنكر قراءة تحليلية في روايتي مسلم النيسابوري وابن جعفر الإزكوي"، وفي هذا الكتاب قمت بنقد بعض الرؤى الموروثة وممارساتها في مدونات مختلف المدارس الفقهية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك قمت بتحليل ونقد مجموعة من الرؤى التاريخية في كتابي "أقانيم اللامعقول"، وأخي الأستاذ نبال خمّاش له كتابه المعروف بـ"الأساطير والأحلام المؤسسة للعقل الإسلامي"، بينما الدراسة هنا كما ذكر الأستاذ بدر بنفسه هي دراسة وصفية، وليست نقدية، وكما يقال: لكل مقام مقال، فكما نحتاج إلى الدراسات النقدية نحتاج في الوقت ذاته إلى الدراسات الوصفية، بل نحتاج لجميع دراسات ومجالات وفنون وطرق المعرفة والعلم.
الجانب الثاني
الملحوظة الأولى: بالنسبة إلى عنوان الكتاب "أثر الفقه العماني في السلوك المجتمعي" فذكر كلمة "الإباضي" أولى من ذكر كلمة "العماني" وفق رؤية الأستاذ بدر فهذا أمر يفرضه علينا البحث في الموضوع، وذلك لأن العماني يدخل فيها الإباضي وغير الإباضي، فهذا الفقه العماني أثر في الإباضي وغير الإباضي، فمعنا مثلاً في محافظتي الباطنة وفي بعض الولايات نجد بعض الإباضية يمارسون بعض مسائل صلاتهم بفقه السنية، والسنية يمارسون بعض مسائل صلاتهم بفقه الإباضية، بل حتى في القضايا الاجتماعية وغيرها متداخلان، وهذا يدل تأثير الفقه العماني دون فارق في المدرستين، صحيح أن المراجع التي اعتمدناها هي من الفقه الإباضي، وذلك لأننا لم نجد مراجع في القرون المحددة للدراسة وهي (3و4و5و6) مصدراً فقهياً لبقية المدارس، فكان رجوعنا إلى مصادر الفقه الإباضي.
ولا يمنع مستقبلاً إن وجدنا مصدراً للمدارس الأخرى أن نضيفه في هذه الدراسة وفق المنهج المتبع دون أن نضطر إلى تغيير العنوان.
ثم ذكرنا العماني فيه أكثر التحاماً للعمانيين، بدل من ذكر الإباضية لكونهم يخرجون من كيان واحد ووطن واحد ويمارسون عباداتهم جنباً إلى جنب دون النظر إلى المذهبية، وهو ما يعزز قيم التسامح والألفة والمحبة بينهم.
الملحوظة الثانية: وتحتوي على 10 نقاط وأعلق عليها نقطة نقطة:
1- لماذا خصصنا التسامح نموذجاً؟ من يقرأ الكتاب يدرك أن ما طرح فيه من مواضيع كـ(التجديد ونبذ التقليد، والكياسة المجتمعية، والمرأة مكانة اجتماعية، وقيمة التعاون، وحق العمل، وحق التملك) هي مواضيع يربطها التسامح، فمثلاً في التجديد ونبذ التقليد، ما يربط بينها أن الفقه العماني لدى كثير من فقهائه دعوة إلى الاجتهاد والتجديد في كل عصر، لكن مع هذا هم يتسامحون مع من لا يرى ذلك، وتم في الكتاب الإشارة إلى ذلك، وكذلك في موضوع المرأة، فلدى كثير من الفقهاء في المدارس الأخرى تحجيم لدور المرأة في المشاركة الاجتماعية والفقهية بينما الفقه العماني يتسامح في ذلك، بل يعطها أحياناً دوراً رئيساً في الحياة ومشاركتها للرجل في كثير من الأمور الحياتية والفقهية.
وأما تخصيص التسامح في 32 صفحة إذ من اللازم علينا ذكره وشرحه وما يحتويه من مفاهيم واختلاف الآراء حوله قديماً وحديثاً لكي لا يفهم ما نقصده من التسامح خطأ.
2- أتفق مع الأستاذ بدر في أنه لا يعقل في أن عمان لا فقه ولا قانون لديها حتى يذهب جابر بن زيد إلى البصرة ثم يبدأ العمانيون يتعلمون الفقه على طريقته أو يديه، ونحن أشرنا في بعض المواضع من الكتاب بأن التجربة العمانية ممتدة حتى ما قبل الإسلام، وخاصة الممارسات المجتمعية، وكما أننا لم نقيد تعليم الإباضية بجابر بن زيد فحسب، مع كوننا مدركين لهذه النقطة، ولكن لأن العمانيين وخاصة الإباضية يعتبرون جابر بن زيد إمامهم في الفقه فلابد من الإشارة إليه وتأثيره الواسع على الفكر العماني الفقهي، ولهذا ينبغي من الباحثين البحث عمن يستقي الإباضية فقههم قبل أن يرحل جابر بن زيد إلى البصرة. بمعنى لماذا انقطع التاريخ الفقهي الإباضي خاصة قبل رحيل جابر بن زيد في عمان؟ أو ما هي مصادر الإباضية في الفقه قبل جابر بن زيد؟
ومن يقرأ كتب التاريخ والسير يجد ككتاب "إتحاف الأعيان" للشيخ سيف بن حمود البطاشي أن رسول الله عليه السلام بعث العلاء بن الحضرمي لعلم لأهل عمان الإسلام وبعث أيضاً إليهم رجلاً اسمه مدرك بن خبوط لقيم أمرهم.
وبما أن هناك مجموعة من الصحابة العمانيين الذين وفدوا إلى رسول الله عليه السلام، وقد جمع أسماءهم الكاتب حمد بن سالم الشبلي في كتابه "الصحابة العمانيون" كمازن بن غضوبة وكعب بن برشة وكعب بن سور وأسد بن بيرح الطاحي وصحار بن العباس العبدي وغيرهم، فلا أستبعد أن العمانيين استقوا فقههم من هؤلاء قبل جابر بن زيد، وإلا فمن أين لجابر أن يفقه شيئاً قبل أن يرحل إلى البصرة لطلب العلم؟!
وبما أننا نعمل على مدونات الفقه في مصادر القرون الهجرية (3-4-5-6) فلم نجد إشارة أو مرجع إلى ما قبل جابر بن زيد من حيث التدوين الفقهي والعقدي إلا إشارات طفيفة، فكان معظم مرجع المصادر الإباضية إلى جابر بن زيد أو طلابه كأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة أو الربيع بن حبيب وغيرهم، وذلك لأن هؤلاء تركوا مدونات سواء ما كان موجوداً منها إلى اليوم أو كان مفقوداً، لكنها كانت حاضرة في بعض الأزمنة يرجعون إليها.
3- نعم المجتمع العماني لم يكن منغلقاً على نفسه، والتاريخ شاهد على ذلك كما أشرنا في كتابنا، وأما أن نحصره في الانفتاح التجاري والسياسي في بعض الأوقات بحكم، فهذا لا أتفق معه، وذلك لأن التجار والساسة يمارسون أعمالهم وفق التفكير الفقهي، وكما يذكر محمد عابد الجابري بأن الأمة العربية هي أمة فقه، وأضرب مثالاً بأبي عبيدة الصغير فهو تاجر وفقيه في الوقت ذاته.
بل الشاهد أيضاً ما تذكره المدونات الفقيه لدى الإباضية من آراء المدارس الفقهية والعقدية الأخرى، ويناقشونها بكل أريحية، يقبلون منها ويرفضون وذلك وفق مناهجهم، بل أبو سعيد الكدمي (ق4هـ) قام بدراسة كتاب "الإشراف" لابن المنذر النيسابوري الشافعي (ت:318هـ)، وقام بتعليق عليه وألف كتابه المعروف بـ"زيادات أبي سعيد الكدمي" ومطبوع حالياً بوزارة لأوقاف والشؤون الدينية.
وأما المقارنة التي ضربها الأستاذ بدر بين الدولة العباسية وعمان، فانفتاح الدولة العباسية بحكم سيطرتهم على كثير من البلدان، واضطهادها للإباضية آنذاك، بل حتى حاولت إخضاع عمان لها، فالعمانيون وقتها لم تتح لهم الفرصة للحصول القيام بترجمة كتب الإغريق أو غيرها، لكن هذا لا يعني أنهم منغلقين، فحن لا ننسى الخليل بن أحمد الفراهيدي ودوه في خدمة العربية، كما لا ننسى المبرد وغيرهم من فقهاء اللغة والشعر، والفلسفة والمنطق كانت حاضرة في عمان بقوة، لكن العمانيين لم يخصصوا كتباً بعينها في هذه الفنون والعلم، فمثلاً، من يقرأ أبا سعيد الكدمي لا يقرأ فقهاً فحسب، بل يقرأ اللغة والفلسفة والمنطق، وما طرحه من نظرية المعبر شاهد على ذلك، وكذلك أبو عبدالله الكندي (ق5هـ) في كتابه الجوهر المقتصر فهو اكتب أقرب ما يكون إلى كتب الفلسفة والمنطق في مناقشة قضية الوجود وواجب الوجود.
وفي الفنون صحيح توجد آراء متشددة في الفقه العماني، كالتشدد مثلاً في الطبل، لكنه في الوقت ذاته توجد آراء أخرى توسع في ذلك، وممن وسع في موضوع الطبل محمد بن محبوب الرحيلي والذي كان قاضياً حيناها بل يعد من أكبر فقهاء زمانه ومرجعهم، والقصة المذكورة عنه تدل على أن المجتمع كان يمارس هذه الفنون مع حضور الرأيين، أذكر هذه القصة كما جاء في كتاب الجامع للفضل ابن الحواري أنه (مر رجل بسوق صحار فرأى دهراً –الطبل- مع رجل فكسره، فرقع عليه صاحب الدهرة إلى محمد بن محبوب، فقال محمد بن محبوب: أعطه كسارة الخشب. ولم يحكم عليه بغير ذلك).
4-بالنسبة إلى ما يراه الأستاذ بدر من كون التعارف أدق من لفظة التسامح، فهذا رأيه، والمناقشة الموضوعية، ينبغي تناقش وفق منهج الكتاب، لا وفق آراء القارئ، فلا ينبغي منه أن يحاكم الكتاب وفق رأيه، بل ينبغي أن يحاكمه وفق طرح الكتاب، فإذا كان ذلك رأيه، فلنا رأي آخر أوضحناها في الكتاب وعليه سار منهج الكتاب في مفهوم التسامح.
5- أشير هنا إلى أننا حين بحثنا في موضوع الكتاب ككل، واجهتنا بعض المشكلات ومنها، أننا لا نتفق أحياناً في طرح بعض المصطلحات والمفاهيم والتعابير، ومصطلح "الفتوحات الإسلامية" من بينها، فهذا على رأي أخي الأستاذ نبال خمّاش، فكان يتنازل عن بعض مفاهيمه وتعبيراته كما أنني أتنازل أيضاً عن بعض مفاهيمي وتعبيراتي، لكي ينجح الكتاب ويخرج في هذه الصورة التي بين أيديكم، وهذا الاختلاف أمر طبيعي وصحي كما نعلم جميعاً ذلك.
6- كلامنا في لعن الزوجة المنقول من كتاب الضياء، يتضمن موضوع البراءة من الزوجة، وما يشهد على ذلك هو أن الفقه العماني يستنكر اللعن إلا للعاصي بمعنى البراءة إلا للعاصي ولهذا نقلنا نصاً آخر بعد نص العوتبي وهو (إنما تجب اللعنة على من عصى الله، فلعلها هي على مذهب تدين به وتخطئ مذهبك)، وهذه العبارة تشير إلى أن المقصود البراءة وليس اللعن اللفظي، ولكننا ضمنا ذلك إنكار العنف اللفظي على الزوجة.
7- مع وجود الخلاف في نجاسة المشرك، أهي نجاسة معنوية أم نجاسة حسية، فنحن اشرنا إلى تجاوز ذلك واعتبرها نجاسة معنوية أي أنها تزول بزول الشرك، طبعاً مع وجود الرأي الآخر ما تشير المدونات إلى ذلك، ولكن لا ينبغي بتر المسألة من سياق الكتاب، والكتاب يتحدث هنا كما أشرت سابقاً إلى التسامح نموذجاً، فحن ما يهمنا في هذا الكتاب وصف الآراء المتسامحة في الفقه العماني لأننا بحاجة ماسة إليها في هذا العصر للتعايش والتفاهم والتسامح، وأما الآراء الأخرى فنشير إليها.
وأما أهل الذمة والمجوس، فليسوا من المشركين، ولكن الفقه العماني قديماً يتعامل معهم بحكم التعايش والتداخل فيما بينهم وفق هذا الخلاف الفقهي، فمن ينظر مثلاً كتاب "المصنف" لأبي بكر للكندي (ق6هـ) يجد هذا الخلاف في الأكل والصلاة وغسل الآنية وغيرها من قبل الذمي أو المجوسي والخلاف في الحكم الفقهي في ذلك، لهذا ذكرنا ذلك، لأننا نتعامل مع مصادر لها حقبتها وطرحها وفق مجتمعاتها المعيشية آنذاك، فهي مقارنة بباقي المدارس تعتبر متقدمة في هذا الطرح والتعايش مع أهل الذمة والمجوس من باب التسامح المتقدم يومها.
8- القيم صحيح أنها مرتبطة بالجنس الإنساني، لكن هذا الإنسان له مكوناته: الدينية والاجتماعية والخلقية والثقافية والنفسية وغيرها، ولهذا حصر القيم بالقيم الإنسانية لكي يرد الأستاذ بدر على لا أن العصبية والبداوة ليست من القيم فهذا تحكم وفق رأيه وليس وفق العلم والمعرفة.
وبداية أصلاً يوجد اتفاق على تعريف مصطلح القيم، فالمفاهيم حوله مختلفة، فالقرآن الكريم والذي نستقي منه لغتنا العربية لا يذكر القيم وإنما يذكر (القيوم ومستقيم وقيام ومقام وقام وقاموا وقوامون ويقيمون والقيّمة والْقَيِّمُ) وكل هذه الألفاظ لا تقدم مفهوماً للقيم، وحينما نلقي نظرة على المعاجم العربية كاللسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للفيروز آبادي ومعجم المقاييس لابن فارس وغيرها لا تذكر القيم بهذا المفهوم المعاصر والذي يتجه بها غالباً نحو الأخلاق الإنسانية، فلفظة قيّم هي من الألفاظ المتطورة والتي جاءت إلينا عن طريق اللغات الأجنبية، وكما يرى رضوان زيادة في كتابه "صراع القيم" أن مصطلح القيم احتوى على اضطراب مفاهيمي والاجتهاد الشخصي دون الاستناد إلى محاكمة علمية أو أكاديمية، رادع ذلك لكون الكلمة مترجمة من اللغة الأجنبية (values).
فيرى مثلاً الدكتور ماجد عرسان الكيلاني (أن القيم محطات ومقاييس تحكم بها على الأفكار والأشخاص والأشياء والأعمال والموضوعات والمواقف الفردية والجماعية من حيث حسنها وقيمتها أو من حيث سوءها وعدم قيمتها وكراهيتها).
ويرى محمد عابد الجابري أنه صارت نقلة للقيم من المعنى التجاري أو الاقتصادي أي القيمة بمعنى الثمن إلى المعنى الأخلاقي فأصبحت ترادف الفضائل بالتعبير في كتب التراث.
ولدى الدراسات الأجنبية أيضاً خلاف في تحديد مفهوم القيم، فكثير من علماء النفس يرون أن القيمة والاتجاه وجهان لعملة واحدة، وكلايدكلاهون يعرف القيم بأنها (أفكار حول ما هو مرغوب أو غير مرغوب، بينما على الاجتماع والسياسة يفسر القيم بأنه كل أمر مرغوب فيه صفة مشتركة داخل مجموعة اجتماعية ما).
وبسبب هذا الاختلاف الكبير والذي ذكرت شذرات منه يجعلنا لا نتفق مع العبري فيما يراه من مفهوم القيم، إذ لا يمكن أن يتجاهل مفهوم الكتاب للقيم ويرد وفق رؤيته لا وفق رؤية الكتاب لقيمة العصبية والبداوة والتي تتسق مع بعض المفاهيم المطروحة في علم الاجتماع.
9- موضوع الولاية والبراءة تم الحديث عنه في الجانب الأول، ولا مزيد عليه هنا، فما كان هناك يشرح ما في هذا الاعتراض، وذلك أيضاً من أجل الاختصار وخوف الإطالة على القارئ.
10- أرى أن الأستاذ بدر العبري يتفق معنا في كثير من النقاط، ولكنه رأى الكتاب من زاوية أخرى، لو رآه من زاوية الوصف كما ذكر في بداية قراءته لما طرح هذا النقد والذي لا أراه نقداً بقدر ما هو تعبير عن آرائه الخاصة، وأشكره مرة أخرى على هذه القراءة التي ترك روح البحث والمراجعة لدينا ولدى القراءة.