وأخيرًا وصلتنا الحكاية: حكاية الحب العظيم بين الإنسانِ والكتبِ، هكذا علقت جريدة إيطالية فور صُدُور كتاب تاريخ القراءة لالبرتو مانغويل، الذي يُعدُّ أحد أهم الكتب النادرة جدًا في سرده لتاريخ القراءة عبر العصور الزمنية المختلفة، ومحاولته تبيان علاقة العشق بين الإنسان والكتب، حتى أن القارئ حينما ينتهي من قراءة هذا الكتاب يدرك جيدا أنه يحوي على كنز ثمين، وأن القراءة ليست مجرد فعلا للهروب من الواقع، بل هي مَنْ تُعِيد تشكيل واقعنا في كل مرةٍ نقرأ فيها كتابا، وهي ليست عزلة؛ لأننا نتواصل من خلالها مع الأحياء والأموات معا.
هل هناك تاريخ للقراءة؟ هل القراءة مثل أي شيءٍ آخر لها بدايات ونهايات ونظريات؟
يمكننا القول أن فعل القراءة لم يغب عن الإنسان مُنذُ بدء وجوده على الأرض؛ لأن فعل القراءة لم يقتصر على الكتاب المقروء فقط، وإنما يمتدُّ أيضا إلى قراءة الذات والآخرين وكل ما يجري حولنا، وهذا ما كان يفعله الإنسان القديم حينما كان يقرأ النجوم والأشجار والريح والبشر في كل خطواته، في محاولة منه للفهم والتواصل مع المحيط بشكلٍ فعّالٍ، حتى تمكن بعد مرور العديد من السنوات من أن يحوّل ما يقرأه في الكون إلى لغة ومن ثم يحوّل لغة الكلام إلى مكتوب؛ مما أخرجه من عزلته ومحدوديته إلى عالم اللغة والانفجار المعرفي، كما مكّنه من التواصل مع أولئك الذين ماتوا ولكنهم لا يزالون يحيون بيننا منذ آلاف السنين، ممن تركوا خلاصة تجاربهم بين بطون الكتب، إنه محاولة اقتراب منهم ومن العالم، وهو سفرٌ عبر الزمن دون حاجة للانتقال الجسدي أو المكاني.
إن المتأمل لفصل: سلطان القارئ، في كتاب تاريخ القراءة ليدرك أن “ألبرتو مانغويل” قد أبطل مفعول الزمن الواقعي كما نشعر به بتقسيماته الثلاثة المتسلسلة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وهو يسرد لنا تاريخ القراءة بين البشر، وكأنّ “البرتو مانغويل” قد أحضر العالم معه في صفحاته، حيث ينتقل من عصر إلى آخر في الصفحة الواحدة دون أن يشعر القارئ بهذا الانتقال، ذلك أن ما حدث في القرن قبل الميلاد، هو ذاته ما حدث في العصور الوسطى، وهو ما حدث في القرن العشرين أيضا، إنه ينتقل بين الزمن الماضي والزمن الحاضر بخفة مستعرضا صورا كثيرة عن علاقة الكتاب بالقارئ وعن تجليات فعل القراءة في الحضارات البشرية المختلفة، وهو ما يجعل تاريخ القراءة دائريا أكثر من كونه يسير في مسار خطي، وربما انتقال الكاتب المفاجئ بين السطور يجعل القارئ يتشتت في البداية كونه لم يعتد كثيرا أسلوب الانتقال الزمني غير المتسلسل، هذا الانتقال المفاجئ بين زمن وآخر لم يكن عشوائيا، حاول “ألبرتو مانغويل” كما استقرأته من خلال قراءتي لهذا الفصل أن يشعرنا بأنه لا تاريخ زمني محدد للقراءة، وهذا ما أكده أيضا حينما قال: “التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة” أي أن تاريخ كل قارئ هو شهادة للتاريخ عن القراءة، وهو ما يجعله أيضا يمزج بين التاريخ الشخصي والعام، فهو يستعرض بدايات قراءته وهو طفل صغير وعلاقته مع الكتاب ويدخل نفسه مع القراء الآخرين كأرسطو، وقسطنطين، وريلكه، وجان جاك روسو تشارلز ديكنز، وغيرهم ذلك أن كل إنسان يدخل تاريخ القراءة حينما يبدأ يقرأ.
لا تقتصر إضافة “ألبرتو مانغويل” على استعراضه للعديد من القراء عبر العصور المختلفة، وإنما يضئ لنا أيضا واقعا سياسيا واجتماعيا وتاريخيا في كل مرة يستعرض فيها واقع القراءة في تلك الحقب، وهذا ما سنحاول التركيز عليه وتسليط الضوء من خلال تتبعنا لمحتوى ما كتب.
يذهب بنا ألبرتو إلى مواضيع مختلفة، منها: قراءة المستقبل، والقارئ الرمزي، والقراءة خلف الجدران، والكاتب القارئ، والمترجم القارئ، وأخيرا القراءة الممنوعة، وجميعها تضئ لنا فعل القراءة وأهميته عبر العصور المختلفة.
لا يقتصر فعل القراءة على الزمن الماضي والحاضر، وإنما قد تكون النصوص التي نقرأها في الكتاب وسيلة للتنبؤ بالمستقبل، وهذا ما حدث منذ القديم في اليونان وفلسطين وروما وأوروبا المسيحية، فقد كان الناس يصدقون العرافات والعرافين وهم يطلقون تنبؤاتهم حول الغيب، حيث كانوا يدعون أن الآلهة تتواصل معهم وأنها توحي لهم ما سيحدث.
ممارسة التكهن بالاعتماد على بعض المقاطع الشعرية أو النثرية أو غيرها له تقاليد عريقة في التاريخ البشري، فقسطنطين الامبراطور الروماني حاول أن يستغل مختارات شعرية لكاهنة وثنية في إقناع الناس أنها كانت تنبأت بالمسيح في الأبيات التي كتبتها؛ لأنه أراد أن يجعل المسيحية دينا للدولة ويوحد المجتمع على مذهب واحد، ونجد أيضا أن أحد ملوك الساسانيين قد استغل نبوءة لزرادشت لأجل تثبيت مملكته، ذلك يحيلنا إلى الفكرة التي أراد “البرتو” تبيانها، وهي أن معنى النص يتوسع بالاعتماد على القارئ، وخلفيته الثقافية والمجتمعية والسياسية، فالقارئ ينظر إلى النص وكأنّه يحاول أن يستخرج منه رسالة تجيبه على أسئلته ويعزله عن تاريخيته ومؤلفه، فهو ليس طرفا سلبيا متلقيا وإنما طرفا فاعلا يحاور النصوص ويصغي إليها، ذلك أن النص لا تقتله قراءة واحدة، إن هذا الفعل قد يغني النص أو يسئ إليه، يغنيه من حيث قدرة القارئ على إعادة إحياء النص من جديد والتفاعل معه برؤى جديدة محاولا الحفر فيه أكثر، حتى أن البعض يقول: قد يكتشف القارئ معاني جديدة لم يتلفت إليها الكاتب أصلا، إلا أنه قد يستغله أيضا لتحقيق حاجاته الشخصية أو يستغله سياسيا أو دينيا لتحقيق مآربه كما فعل قسطنطين وغيرهم من الملوك ورجالات الدين عبر التاريخ.
هناك أيضا علاقة رمزية بين القارئ والكتاب وهي حينما يكون فعل القراءة مؤشرا أو دالا على أمر ما، فلطالما كان امتلاك كتابا مؤشرا على مكانة اجتماعية وثراء عقلي في العديد من الحضارات على مرّ العصور، ففي روسيا في القرن الثامن عشر كان أعضاء الحاشية الملكية يسعون للتقرب من الملكة عاشقة الكتب بالتظاهر بالقراءة وامتلاك المكتبات الضخمة، وفي القرن الرابع عشر من العصور الوسطى كان الكتاب والأسفار في فن الأيقونات المسيحية، وكان يجسّد الحكمة الإلهية والسلطة الروحية.
وربما لم تقتصر رمزية الكتاب عند هذا الحد، بل إن هناك علاقة من نوع آخر، وهي حينما يشير الكتاب إلى القارئ نفسه حتى أن بعضهم قد قال: “قل لي ما تقرأ؛ أقل لك من أنت” بيد أن ذلك قد يتحول إلى انتكاسة، فقد تم التخلص من كتب “كارل ماي”؛ لأن هتلر كان يمتدحه، فمن الممكن أن تتحول هذه الرمزية إلى انتكاسة.
يأخذنا “ألبرتو” إلى وجه آخر من أوجه القراءة وهو الكاتب القارئ، فلم يكن الكاتب ليكون ما هو عليه لو لم يكن قارئا جيدا، إلا من يعد فعل الكتابة ترفا وتسلية، فخلف كل كاتب عميق، عشرات من الكتب، وفي نهاية القرن الأول كانت قراءات الكتاب قد أصبحت بمثابة طقسا ثقافيا في اليونان وروما، حيث كان الكاتب يقرأ على جمهوره مختارات مما يكتبه، ربما تحقيقا لكماله الشخصي، وسعيا لأن يتلقى الإشارات والانتقادات لتحسين نصوصه، ولكن الرقابة الأمنية أيضا قد تدفع الكاتب لقراءة نصوصه على الآخرين، ففي أوربا منعت الدوائر الرسمية الفرنسية “جان جاك روسو” من طباعة كتابه: “اعترافات”؛ مما اضطره إلى قراءة كتابه على مسامع الجمهور لساعات طويلة، هناك أيضا المترجم كقارئ، فكل مترجم بارع لابد أن يكون لديه قدرة عميقة للحفر في النصوص بناء على قراءاته السابقة، وكما قيل فإن الترجمة أكثف أشكال الفهم.
لكن فعل القراءة لم يكن دومًا متاحًا للجميع، ففي عصور غابرة في اليونان على سبيل المثال، كانت قراءة الملاحم والدراما الإغريقية موجهة للرجال بينما كانت الروايات الإغريقية ذات الطابع الرومانسي موجهة للنساء، وفي اليابان لم تكن سيدات البلاط الملكي في القرن الحادي عشر يستطعن القراءة وذلك لأنهم كانوا يحصرون القراءة للرجال، كذلك فقد كانت بعض الشعوب تفرق بين الأدب الجدي والأدب الأنثوي، فالاشتغال بالفلسفة والشؤون السياسية كان حكرًا على الرجال، بينما كان يُترك للمرأة الأدب الترفيهي المتعلِق بالشؤون الشخصية والمنزل، وفي القرن التاسع عشر أسس آنثوني كومستوك جمعية أطلق عليها “جمعية مكافحة الرذيلة” وأمر بملاحقة الكتّاب والأدباء، ممن لا تنطبق عليهم معاييره الأخلاقية على حد قوله؛ مما دفع العديد إلى السجن والانتحار، ولم يكن وضع العبيد بأفضل حال على مرّ التاريخ البشري، ففي أمريكا، كان الأرقاء الأفروأميركيين يُعرِضون حياتهم للخطر في كل مرةٍ يحاولون فيها القراءة، فقد كانت محرمة عليهم، وفي القرن العشرين تم إحراق أكثر من 20 ألف كتاب في برلين أمام عدسات المصورين؛ تهديدًا لكل من يتجرّأ أن يقارع النازية الهتلرية، كما أصدر أحد قياصرة الصين قبل الميلاد أمرا بإحراق جميع الكتب في إمبراطورتيه.
هكذا نرى أن المرأة والعبيد هم أكثر فئتين تم محاربتهما ومنعهما من القراءة في العديد من الثقافات، ولكن السجن يولّد شرارة التمرد والحريّة، وهذا ما فعله العديد من النسوة والعبيد ممن تمردوا على أوضاعهم، لطالما خشي المستبدون من فعل القراءة؛ لأنهم يدركون أنه أسرع الطرق ليدرك الإنسان حريته، ذلك أن الكلمة تقود إلى فكرة والفكرة تقود إلى السلوك، وفي إحدى مقالاته الساخرة بعنوان: “حول المخاطر المرعبة للقراءة” كتب فولتير” تشتت الجهل، هذا الحارس الأمين، والضامن الحريص للدول ذات الأنظمة البوليسية”.
كما تبين من خلال هذا العرض لهذا الكتاب أن “مانغويل” يأخذنا معه إلى رحلة الإنسان في القراءة، مسلطًا الضوء على العديد من الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أسهمت في تشكيل واقع القراءة، ويؤسس معنا جمالا مختلفا، وعشقا متينا بين الكتاب والقارئ.