قراءة في كتاب "ماركس في مسقط" لعليّ الرّواحيّ بقلم الدّكتور سعود الزّدجاليّ

يعد كتاب "ماركس في مسقط" كتابا مختلفا عن الدراسات المحلية السائدة؛ فهو قراءة مفارقة للمجتمع عن القراءات السائدة، أو محاولة، أو مقاربة علمية لفهم "المجتمع العماني" بوصفه منتميا إلى الظاهرة الإنسانية الكبرى؛ ومهما حمل هذا المجتمع من "خصوصيات" أو "أخلاق متعالية" كما يُروَّج له دائما؛ فإنه لن يكون منزوع السمات الإنسانية وإشكالاتها؛ بل يقع الترويج ذاته ضمن سياق الوعي الزائف. هذه القراءة التي اعتمدها الرواحي لا تتوسل القوى الخارج- مادية، أو الخارج- إنسانية، وإنما تحاول استيعاب الظاهرة من داخلها؛ لذلك يجدر بنا أن نوضح أولا بأن المنهج أو العنوان لا يعني الاغتراب أو الإغراب أو الاستغراب للمجتمع العماني؛ لأن الأطروحة المركزية في الفكر الماركسي التي توظفها القراءة تعد أطروحة لا تتجزأ من الظاهرة الإنسانية الكبرى؛ كما أنها منهج وليست مضامين أو نتائج؛ لأن الظاهرة ماثلة والاشتغال على التفكيك والتفسير.

    يتكون الكتاب من (250) صفحة تقريبا من القطع المعتاد، صدر في بيروت، عن دار جداول في أكتوبر من عام 2017، وهو يتضمن أربعة فصول، وضميمة، ويعدُّ كتابا متميزا في إطاره النظري، ومدوناته التي يقاربها الباحث؛ وبلغة هادئة وعدة معرفية ومنهجية جذابة، ويقدم مادة جيدة تفتح الطريق أمام الباحثين في تحليل الخطابات والظواهر الاجتماعية؛ وبذلك يتحرر "ماركس في مسقط" من بعض المعضلات التي تضمنتها دراسات  التراث الإسلامي، أو الواقع العربي منها:

أن تنظر الدراسات التي قامت بتحليل التراث أو الواقع الراهن بوصفهما ناتجَ السلطة، أو يعدّ جزءا منها؛ فكل الميادين الحياتية في التاريخ والراهن العربي هي ظلال السلطة السياسية كما يعتقد أصحاب هذه الدراسات، وهذه الدراسات ترتكب إشكالا منهجيا يخالف الواقع في تحولاته، ويتنكّر للمحسوس أو المعيش اليومي؛ كما فعل الجابري وغيره؛ مما يؤدي إلى مصادرة الحياة.

على عكس النظرة الأولى التي تتوسلها الدراسات النقدية التي أشرت إليها؛ تأتي طائفة كبيرة من الدراسات ذات الطابع الديني أو الاحتفائي فتضع الحياة في خانة "المتغيرات التابعة" للمتغيرات الميتافيزية؛ فتدخل الدراسات التاريخية أو تخرج من علميتها إلى "تأويلية التاريخ" أو الواقع بربط كل شيء بالميتافيزيقا والقدر بتجاهل البنى المادية والصراع الإنساني، وكأنها خارج المقدور.

    يرى المؤلف بأن العنوان كناية عن المجتمع وتشظّي ظواهره؛ ليكون مادة مفحوصة بعُدة مفاهيمية ماركسية تجاه الحياة والتاريخ والدولة؛ لذا يعد الكتاب مختلفا بذات الاعتبارات التي أشرت إليها، ولأنه معالجة مختلفة للظاهرة الاجتماعية في المجتمع العماني، وما يرتبط بها من تحولات سياسية واقتصادية. إن المؤلف يعتمد أطروحة ماركسية مركزية بتوظيف العلائق بين "البنية التحتية" المتمثلة في "نمط الإنتاج السائد أو طريقة العمل، أو أسلوب إنتاج الحياة"، ويمكن أن نطلق عليها "المعيش الملموس أو الظاهر في السطح"؛ بينما تأتي "البنية الفوقية" بوصفها الأنساقَ المفاهيمية والرمزية التي تحرك الإنسان في معيشه اليومي؛ كالثقافة والدين والقانون، ينبني الكتابُ على هذه الأطروحة المركزية متوسلا أطروحات ماركسية مرتبطة مع الطرح الأساسي المنهجي السابق؛ مثل: حتمية الصراع الطبقي، وأن المجتمعات الإنسانية تاريخ لذلك الصراع، وأن الفكر السائد هو فكر "الهيمنة" الذي يقف أمام التحولات الكبيرة أو المفاجئة، باعتبار أن الحرية هي"الحركة"  بمفهوم توماس هوبز؛ وكل ذلك تحت تأثير "التصور المادي للتاريخ" في سياق المجتمع العماني القديم والمعاصر.

     إن "التاريخ مرتبط بتلك الجدلية أو الديالكتيك المستمر بين الحياة المادية للبشر (البنية التحتية) أو طرق الإنتاج، والتصورات والوعي والأيديولوجيا التي يعتنقونها"، ولكن إلى أي مدى يمكن القول: إن البنى التحتية أثّرت أو تؤثر في البنى الفوقية في المجتمع العماني؟ إن هذه القضايا الأساسية؛ تفسح المجال لتساؤلات مختلفة في تحليل الرواحي للمجتمع العماني، من مثل: أين موقع السلطة السياسية من التحولات الاجتماعية أو الاقتصادية في المجتمع العماني؟ هل يمكن للدين أو التيارات الدينية أن تقدم تفسيرا للظاهرة أو الخلل الاجتماعي في المجتمعات؟ أين موقع الأسرة العمانية من الهيمنة ومقاومة التحولات؟  هل يمكن رسم خارطة عامة للاقتصاد العماني في ظل هذه الأطروحات التفسيرية للحركة الاجتماعية في الواقع العماني؟ ما علاقة اللغة الدراجة بالحياة اليومية وتحولاتها وما يرتبط بها من ثقافة أو وعي؟ كيف يمكن النظر إلى المجتمع العماني في ظل نمطي الإنتاج والاستهلاك؟ ما أهم سمات الفضاء العمومي العماني في ظل التحولات من حيث الحريات وعلاقتها بالقانون والمؤسسات، كالبرلمان، أو تخطيط المدن كمدينة مسقط بحيث تكون حاضنة للتعبير العمومي عن الآراء والوعي الجماعي؛ وعلاقة كل ذلك بعسكرة الفضاء العماني، وزحمة المؤسسات الأمنية؟ ما موقع البيروقراطية أو الإجراءات الإدارية بعقليات الهيمنة؟ لماذا أصبحت المدينة تحمل في تفاصيلها سمات الريف المتحضر في ظاهرها؟  ما علاقة الكتابة والثقافة بترسيخ القيم المهيمنة في المجتمع؟ كيف يمكن النظر إلى الضعف الموضوعاتي في سياق الكتابة العمانية من حيث إنها انزواء اجتماعي وأحيانا نوع من التضليل؟ كيف يمكننا قراءة ظاهرة "الكاتب المحافظ" في السياق العماني؟ هل يمكن القول بوجود حداثة عمانية أو تحديث عماني؟ ما دور المؤسسات الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية في تعميق حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان؟ هل يمكن القول بوجود هيراركية دينية عمانية؟ ما المقصود بظاهرة "الإنسان المستثنى" في الواقع العماني؟ كيف يمكن تشريح البورجوازية العمانية أو  سردية اللامساواة بوصفها ظاهرة؟

    تعدُّ هذه الأسئلة أهم المفاتيح لقراءة "ماركس في مسقط" ولكن من بين القضايا التي يمكن تعكّر صفو المنهج العلمي في الكتاب مظنة أن تكون الجدلية بين البنى التحتية والفوقية افتراضا يستبق النتائج ويلوي عنق الدراسة؛ لذلك فإن على القارئ أن يغوص في ما طبيعة وجود "ماركس في مسقط" من حيث الإسقاط المنهجي، والعلاقة التي تربط بين المنهج والموضوع أو التفريق بين المضامين والوسائل؛ فهذا الربط كثيرا ما يغيب في أوساط المشهد الثقافي المحلي، ويمكن أن يئد البؤر المشرقة في الكتاب، إن الاقتصاد يشكل مقولة جوهرية في الحراك الاجتماعي كما يراه الكتاب، وهي مقولة مهمة لفهم طبيعة الاستباقات الإنسانية في حلبة الحياة اليومية بكل تغيراتها ومفارقاتها.

    تعدُّ الفروق الجوهرية بين النظرة المادية والنظرات الدينية السائدة التي دأبت على تفسير الحياة اليومية مهمة في فهم الظاهرة العمانية منذ ما يقارب العقود الخمسة، على أن الباحث بفطنته يحاول أن ينتبه إلى أن تكون العلاقة الجدلية بين البنية التحتية والفوقية دورا منطقيا باطلا يخرق سكينة المنهج الذي اجترحه الكتاب وساق الحياة الحالة الاجتماعية عليه، ومع ما يلاحظ على المؤلف من الإغراق في الأعمال الفلسفية، وترك التقارير الدولية بشأن التنمية الإنسانية مما جعل الكتاب أحيانا استعراضا للأطروحات الفلسفية، وقد يشق على القارئ في اكتشاف الحالة العمانية؛ إلا أن لهذه التنظيرات وجاهتها في ظل غياب المناهج والنصوص الفلسفية الأساسية، وفي إطار مفهوم تشظّي السلطة عند ميشيل فوكو، يمكن رسم خارطة كلية وشاملة للمجتمع العماني من الاقتصاد، والدين، والتقاليد، والجغرافيا، والثقافة، ولكن انحصار الكتاب على دور الأسرة ربما يجعل القضية تستوجب إعادة النظر في تراتبية السلطات في المجتمع على الرغم من الانتباهة التي سجلها الباحث بشأن نوعية السلطة.

    تُفضي النقاشات التي يفتحها الرواحي إلى قضية مهمة متمثلة في دور البيئة الاجتماعية في الفعل الفردي، من حيث العلاقة بين النزعتين: النفسية والاجتماعي؛ "ففي الكثير من الحالات يعزى الكثير من التصرفات والسلوكيات إلى الجانب الفردي أو الجانب الغريزي، في حين أن هناك تصرفات أخرى تندرج في نطاق البيئة الاجتماعية"، وفي سياق تفكيك الثقافة العربية هناك دوران فاعلان بحاجة إلى إثارة الكثير من الأسئلة حولهما: (أولا) الاستبداد السياسي، و(ثانيا) النصوص الدينية الفاعلة، وما ولدته هذه النصوص من قوى متكثرة ومتغلغلة بسبب توليد نصوصي أدى إلى تكاثر النصوص من النص الأساسي إلى الشروح، والتنظيرات المنهجية لذات النصوص؛ على أن أصحاب هذه المشاريع الثقافية أغفلوا - في رأي الرواحي - إحداث القطيعة مع التأويلات السابقة، وهو يراهن على أن البنية التحتية الماركسية يمكن تحدث تلك القطيعة؛ عندما نتجاوز النمط الريعي في الاقتصاد.

    غن التوقف على ظاهرة "اللغة" في حيز المعيش اليومي، تعد إلماعة مهمة للرواحي، بيد أنني أعتقد أن التغيرات في التراكيب والمفردات في الاستخدام اليومي قد ترتبط بنمط الاستهلاك والاغتراب أكثر من التغيرات في البنى الفوقية والوعي؛ على أنها يمكن أن تكون مؤشرات لدراسة مستوى الوعي ونوعيته واتجاهاته؛ لا سيما الوعي المرتبط بالحقوق الشخصية، والقانونية وغيرها كما أشار الكتاب، ويمكن أن يتعالق ذلك بالمبحث "المجتمع العماني ونمطا الإنتاج والاستهلاك" فتظهر اللغة اليومية بوصفها أداة تتبع للوعي في سياق الاستهلاك والإنتاج، وهذا الربط المنهجي بين الفصول والمباحث دون الإكثار من التنظيرات قد يعد نقصانه مثلبة في التحليل العلمي، ولكنه لا ينقص من القيمة الفعلية للكتاب لا سيما بسبب فقر المكتبة العمانية في هذا الجانب؛ يجعلنا ذلك نفكر في مفارقات الوعي العماني في أسباب التعايش بين التقانات الحديثة والعنصرية القبلية، والتعصب الديني، أو التأويل للحياة اليومية اتكاء إلى القوى الخارقة للطبيعة؛ أو التساكن بين نمط ثقافي حديث مفتوح على آفاق الفكر كالمقاهي المنتشرة وازدياد المجالس الفئوية التي تنسب إلى القبائل، يدفع ذلك القارئ أن ينساق في جاذبية القضايا المطروحة في الفصل إلى الدخول في مسألة الدين في سياق الإنتاج أو "الرأسمال الديني"، ويمكن أن نضيف "الرأسمال القبلي- الديني" لبعض العائلات أو الرموز التي استخدمت تاريخها الديني القبلي حتى في سياق التمرد على السلطة لجلب المزيد من الثراء.

    ولكن على القارئ ألا يغفل في مبحث "المجتمع العماني ونمطا الإنتاج والاستهلاك"  الإغراق التنظير؛ ليستطيع استثماره في فهم خارطة الحالة الاجتماعية بأبعادها، ؛ إذ المعهود في القارئ العماني انعدام صبره ونفسه الطويل أمام الدراسات الفلسفية والعلمية، وفي العلاقة بين أنماط التفكير السائدة، ونمط الاستهلاك، حين يرى المؤلف أن التساكن بين التقانات الحديثة والعنصريات التقليدية، من جهة، وبين أنماط الاستهلاك الجديدة، والقوى الغيبية من جهة أخرى معضل أو غير طبيعي، يمكن أن يكون طبيعيا؛ لأن طبيعة المعيش اليومي تؤدي إلى الاغتراب؛ إذ سببت هذه الأنماط نوعا من توثين الإنتاج والخضوع الإنساني للاستهلاك، ومن ثم توثين السلعة، والتشيؤ، ومن ثم توثين العلاقات إذ وقعت ضمن حيز التبادل التجاري كـ(الزيارات والمناسبات)، كما أن التساكن نفسه بين هذه العناصر يقع ضمن التبادل التجاري؛ إذ الاعتماد عليها أصبح سبيلا إلى الوصول إلى المنافع الزمنية؛ مما يعني وجود الظاهرة الشكلية في الاعتقاد أو التدين. وأعتقد أنه علينا إعادة النظر في فهم الذات الإنسانية؛ فهي ليست "كوجيتو بلهاء" بتعبير خليل أحمد خليل، ولكنها "تاريخ" كما هو عند يورغين هابرماس، وبالتالي فإن التفريق بين الأدوات، والوسائل، والمضامين والغايات ضروري لمزيد من الفهم.

    يأتي مبحث الفضاء العمومي وعقل المدينة في سياق المباحث المهمة للكتاب وتحليلاته؛ إذ طرح الرواحي قضية مهمة تتعلق بالقانون والتشريعات وعلاقتها بالحرية، ووضع  تخطيط المدينة في علاقة مهمة مع الساحة العمومية والحريات؛ لن الشكل مفضٍ إلى معاني البنية؛ وقد يرتبط بــ"عسكرة المجتمع" التي تعد قضية بالغة الأهمية في سياق التفكير العماني، والاقتصاد، والتغيرات المختلفة؛ كما أن الخلط بين دائرة الكتاب والمثقفين موضوع يتموضع في الإطار ذاته يتعلق بالوعي، ولذلك نلاحظ إشكالات كثيرة في مستوى الجودة والتفكير، والضعف الموضوعاتي، ووجود الكاتب المحافظ، وفي مبحث الذات الحديثة والدولة الحديثة يجعل الرواحي المؤسسات الاجتماعية والدينية سببا في تعميق الاغتراب، ولكنني أجدها نتيجة طبيعية أيضا - كما أشرت - لحالة الاغتراب والتحديث المادي؛ إذ الإنسان في حيز الدولة "أداة" وكان يمكن أن يكون "آلة" عند التفريق بينهما، بفهم الطبيعة الإنسانية فهما عميقا.

    أختم هذا المقال بالفصل الثاني الذي عنوانه الرواحي بـ"جينالوجيا البورجوازية الدينية أو سردية اللامساواة: مقاربات أولية"؛ إذ تأتي مسألة الحتمية الواقعية والتاريخية للطبقية في المجتمعات، وكيفية نشأة الطبقات في المجتمع العماني، وأعتقد أن الدراسة تحتاج إلى تعميق مسألة العلاقة بين الإمامة والقبيلة كما طرحتها بعض الدراسات الاستشراقية (ويلكنسون مثالا)، وعلاقتها بطبقة العلماء التي شكلت ضغطا تاريخيا في صناعة الصراع العماني على السلطة.

     في إطار هذا الفصل يطرح الرواحي سؤالا مهما لفهم طبيعة الاقتصاد العماني: هل نشأت الطبقة الغنية في المجتمع العماني عبر العمل وتراكم رأس المال ووسائل الإنتاج، أم بفعل الاقتصاد الريعي؟ إن الطبقة لم تسع إلى تغيير البنية الفكرية للمجتمع عن طريق تغيير البنية الإنتاجية والتي يفترضها الرواحي! وأرى أن هذه الطبقة كانت جاهلة بشأن الطبيعة الإنسانية للمجتمعات؛ لذلك فكانت لا تسعى إلى تقوية البنى الاقتصادية بقدر ما سعت إلى الاعتماد على الدولة وريعها وأرباح اللحظة، ومن بين السمات الجوهرية لهذه الطبقة أنها تعد العامل المهم في القرار السياسي؛ ولذلك طرح الرواحي تشكيكه في القرار أحيانا، وتلك العوامل فتحت المجال لظهور البورجوازية الدينية، وهنا تجدر الإشارة إلى اعتراض هنري كوربان على غولدزيهر في الأرثوذوكسية الإسلامية، والتراتبيات الكنسية في كتابه "تاريخ الفلسفة الإسلامية"، فكيف تشكلت السلطة الدينية في المجتمع العماني وتتشكل في الأجيال المتعاقبة؟ هذا السؤال عن طبقة داخل المجتمع يفتح آفاق التساؤل عن جميع البورجوازيات العمانية.


رابط الحلقة

https://youtu.be/OQYcy4BWhd4


تم عمل هذا الموقع بواسطة